سورة فاطر - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)}
قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ} يعني كفار قريش. {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أنبياءهم، يسلي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} أي بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات. {وَبِالزُّبُرِ} أي الكتب المكتوبة. {وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ} أي الواضح. وكرر الزبر والكتاب وهما واحد لاختلاف اللفظين.
وقيل: يرجع البينات والزبر والكتاب إلى معنى واحد، وهو ما أنزل على الأنبياء من الكتب. {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} أي كيف كانت عقوبتي لهم. وأثبت ورش عن نافع وشيبة الياء في {نكيري} حيث وقعت في الوصل دون الوقف. وأثبتها يعقوب في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين. وقد مضى هذا كله، والحمد لله.


{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} هذه الرؤية رؤية القلب والعلم، أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل، ف {أَنَّ} واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. {فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ} هو من باب تلوين الخطاب. {مُخْتَلِفاً أَلْوانُها} نصبت {مُخْتَلِفاً} نعتا ل {ثَمَراتٍ}. {أَلْوانُها} رفع بمختلف، وصلح أن يكون نعتا ل {ثَمَراتٍ} لما عاد عليه من ذكره. ويجوز في غير القرآن رفعه، ومثله رأيت رجلا خارجا أبوه.
{بِهِ} أي بالماء وهو واحد، والثمرات مختلفة. {وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها} الجدد جمع جدة، وهي الطرائق المختلفة الألوان، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال: جدد بقسم الجيم والدال نحو سرير وسرر.
وقال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد *** طاو ويرتع بعد الصيف عريانا
وقيل: إن الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر. قال الجوهري: والجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة الطريقة، والجمع جدد، قال تعالى: {وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها} أي طرائق تخالف لون الجبل. ومنه قولهم: ركب فلان جدة من الامر، إذا رأى فيه رأيا. وكساء مجدد: فيه خطوط مختلفة. الزمخشري: وقرأ الزهري {جدد} بالضم جمع جديدة، وهي الجدة، يقال: جديدة وجدد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسر بها قول أبي ذؤيب:
جون السراة له جدائد أربع وروي عنه {جدد} بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ} وقرئ: {وَالدَّوَابِّ} مخففا. ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ: {وَلَا الضَّالِّينَ} لان كل واحد منهما فر من التقاء الساكنين فحرك ذلك أولهما وحذف هذا آخرهما قاله الزمخشري. {وَالأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ} أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك وكل ذلك دليل على صانع مختار. وقال: {مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ} فذكر الضمير مراعاة ل {مِنَ} قاله المؤرج.
وقال أبو بكر بن عياش: إنما ذكر الكناية لأجل أنها مردودة إلى {ما} مضمرة مجازه: ومن الناس ومن الدواب ومن الأنعام ما هو مختلف ألوانه أي أبيض وأحمر وأسود. {وَغَرابِيبُ سُودٌ} قال أبو عبيدة: الغربيب الشديد السواد، ففي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ومن الجبال سود غرابيب. والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب: أسود غربيب. قال الجوهري: وتقول هذا أسود غربيب، أي شديد السواد. وإذا قلت: غرابيب سود، تجعل السود بدلا من غرابيب لان توكيد الألوان لا يتقدم.
وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله يبغض الشيخ الغربيب» يعني الذي يخضب بالسواد. قال امرؤ القيس:
العين طامحة واليد سابحة *** والرجل لافحة والوجه غربيب
وقال آخر يصف كرما:
ومن تعاجيب خلق الله غاطية *** يعصر منها ملاحي وغربيب
{كَذلِكَ} هنا تمام الكلام، أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية، ثم استأنف فقال: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته، فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} قال: الذين علموا أن الله على كل شيء قدير.
وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله تعالى فليس بعالم.
وقال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل. وعن ابن مسعود: كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلا. وقيل لسعد ابن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال أتقاهم لربه عز وجل. وعن مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها. وأسند الدارمي أبو محمد عن مكحول قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم تلا هذه الآية- إنما يخشى الله من عباده العلماء. إن الله وملائكته وأهل سماواته وأهل أرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير» الخبر مرسل. قال الدارمي: وحدثني أبو النعمان حدثنا حماد ابن زيد عن يزيد بن حازم قال حدثني عمي جرير بن زيد أنه سمع تبيعا يحدث عن كعب قال: إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل، ويتفقهون لغير العبادة، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود الضأن، قلوبهم أمر من الصبر، فبي يغترون، وإياي يخادعون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران. خرجه الترمذي مرفوعا من حديث أبي الدرداء وقد كتبناه في مقدمة الكتاب.
الزمخشري: فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ {إنما يخشى الله} بالرفع {مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} بالنصب، وهو عمر بن عبد العزيز. وتحكى عن أبي حنيفة. قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوب الخشية، لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم. والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.


{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} هذه آية القراء العاملين العالمين الذين يقيمون الصلاة الفرض والنفل، وكذا في الإنفاق. وقد مضى في مقدمة الكتاب ما ينبغي أن يتخلق به قارئ القرآن.
{يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ} قال أحمد بن يحيى: خبر {إِنَّ} {يَرْجُونَ}. {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قيل: الزيادة الشفاعة في الآخرة. وهذا مثل الآية الأخرى: {رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 38- 37]، وقوله في آخر النساء: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173] وهناك بيناه. {إِنَّهُ غَفُورٌ} للذنوب. {شَكُورٌ} يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10